فصل: مبحث في التَّرْتِيبِ في الْوُضُوءِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


مبحث الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ

وَأَمَّا الْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ صِفَةِ هذا الْمَسْحِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ لَا وفي بَيَانِ ما يَنْقُضُهُ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا اُنْتُقِضَ وفي بَيَانِ ما يُفَارِقُ فيه الْمَسْحُ على الجبائر المسح على الْخُفَّيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ جَائِزٌ وَالْأَصْلُ في جَوَازِهِ ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُسِرَ زَنْدِي يوم أُحُدٍ فَسَقَطَ اللِّوَاءُ من يَدِي فقال النبي صلى الله عليه وسلم اجْعَلُوهَا في يَسَارِهِ فإنه صَاحِبُ لِوَائِي في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فقلت يا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما أَصْنَعُ بِالْجَبَائِرِ فقال امْسَحْ عليها شُرِعَ الْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ عِنْدَ كَسْرِ الزَّنْدِ فَيَلْحَقُ بِهِ ما كان في مَعْنَاهُ من الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا شُجَّ في وَجْهِهِ يوم أُحُدٍ دَاوَاهُ بِعَظْمٍ بَالٍ وَعَصَبَ عليه وكان يَمْسَحُ على الْعِصَابَةِ وَلَنَا في رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إسوة حَسَنَةٌ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ لِأَنَّ في نَزْعِهَا حَرَجًا وَضَرَرًا‏.‏

مبحث شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ

وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَسْلُ مِمَّا يَضُرُّ بِالْعُضْوِ الْمُنْكَسِرِ وَالْجُرْحِ وَالْقُرْحِ أو لَا يَضُرُّهُ الْغَسْلُ لَكِنَّهُ يُخَافُ الضَّرَرَ من جِهَةٍ أُخْرَى بِنَزْعِ الْجَبَائِرِ فَإِنْ كان لَا يضر ‏[‏يضره‏]‏ به وَلَا يُخَافُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَسْقُطُ الْغَسْلُ لِأَنَّ الْمَسْحَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ ثُمَّ إذَا مَسَحَ على الْجَبَائِرِ وَالْخِرَقِ التي فَوْقَ الْجِرَاحَةِ جَازَ لِمَا قُلْنَا وأما إذَا مَسَحَ على الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ عن رَأْسِ الْجِرَاحَةِ ولم يَغْسِلْ ما تَحْتَهَا فَهَلْ يَجُوزُ لم يذكر هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كان حَلَّ الْخِرْقَةَ وَغَسَلَ ما تَحْتَهَا من حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ يَجُوزُ الْمَسْحُ على الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ وَيَقُومُ الْمَسْحُ عليها مَقَامَ غَسْلِ ما تَحْتَهَا كَالْمَسْحِ على الْخِرْقَةِ التي تُلَاصِقُ الْجِرَاحَةَ وَإِنْ كان ذلك لَا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ عليه أَنْ يَحِلَّ وَيَغْسِلَ حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عليها لِأَنَّ الْجَوَازَ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ على الْجَبِيرَةِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ على عَيْنِ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بها فَإِنْ كان لَا يَضُرُّ بها لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا على نَفْسِ الْجِرَاحَةِ وَلَا يَجُوزُ على الْجَبِيرَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ لِأَنَّ الْجَوَازَ على الْجَبِيرَةِ لِلْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ وَلَوْ كانت الْجِرَاحَةُ على رَأْسِهِ وَبَعْضُهُ صَحِيحٌ فَإِنْ كان الصَّحِيحُ قَدْرَ ما يَجُوزُ عليه الْمَسْحُ وهو قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَمْسَحَ عليه لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ من مَسْحِ الرَّأْسِ هو هذا الْقَدْرُ وَهَذَا الْقَدْرُ من الرَّأْسِ صَحِيحٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ وَعِبَارَةُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ في مِثْلِ هذا أنه إنْ ذَهَبَ عَيْرٌ فَعَيْرٌ في الرِّبَاطِ وَإِنْ كان أَقَلَّ من ذلك لم يَمْسَحْ عليه لِأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَمْسَحُ على الْجَبَائِرِ وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ هل هو وَاجِبٌ أَمْ لَا فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الصَّلَاةِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ وَذَلِكَ يَضُرُّهُ أَجْزَأَهُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا كان ذلك لَا يَضُرُّهُ لم يَجُزْ فَخَرَجَ جَوَابُ أبي حَنِيفَةَ في صُورَةٍ وَخَرَجَ جَوَابُهُمَا في صُورَةٍ أُخْرَى فلم يَتَبَيَّنْ الْخِلَافُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا كان الْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ يَضُرُّهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عنه الْمَسْحُ لِأَنَّ الْغَسْلَ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ فَالْمَسْحُ أَوْلَى وَأَمَّا إذَا كان لَا يَضُرُّهُ فَقَدْ حَقَّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الِاخْتِلَافَ فقال على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهَكَذَا ذَكَرَ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ في اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ وَعِنْدَهُمَا وَاجِبٌ وَحُجَّتُهُمَا ما رَوَيْنَا عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه بِالْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ بِقَوْلِهِ امْسَحْ عليها وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه من أَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ بِهِ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إن كان الْمَسْحُ لَا يَضُرُّهُ يَجِبُ بِلَا خِلَافٍ‏.‏

وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بين حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ وهو أَنَّ من قال إنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ ليس بِوَاجِبٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عَنَى بِهِ أَنَّهُ ليس بِفَرْضٍ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَوُجُوبُ الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ ثَبَتَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَأَنَّهُ من الأحاد فَيُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ وَمَنْ قال إنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ وَاجِبٌ عِنْدَهُمَا فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ وُجُوبَ الْعَمَلِ لَا الْفَرْضِيَّةَ وَعَلَى هذا لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ لِأَنَّهُمَا لا يَقُولَانِ بِفَرْضِيَّةِ الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْفَرْضِيَّةِ بَلْ بِوُجُوبِهِ من حَيْثُ الْعَمَلُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُحْمَلُ على الْوُجُوب في حَقِّ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا الْفَرْضِيَّةُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وأبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يقول بِوُجُوبِهِ في حَقِّ الْعَمَلِ وَالْجَوَازُ وَعَدَمُ الْجَوَازِ يَكُونُ مَبْنِيًّا على الْوُجُوبِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ في حَقِّ الْعَمَلِ لو تَرَكَ الْمَسْحَ على بَعْضِ الْجَبَائِرِ وَمَسَحَ على الْبَعْضِ لم يذكر هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ قال إنْ مَسَحَ على الْأَكْثَرِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا بِخِلَافِ مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْأَكْثَرُ لِأَنَّ هُنَاكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّقْدِيرِ فَلَا تُشْتَرَطُ الزِّيَادَةُ على الْمُقَدَّرِ وَهَهُنَا لَا تَقْدِيرَ من الشَّرْعِ بَلْ وَرَدَ بِالْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ إلَّا أَنَّ ذلك لَا يَخْلُو عن ضَرْبِ حَرَجٍ فَأُقِيمَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْجَمِيعِ والله أعلم‏.‏

مبحث نَوَاقِضِ الْمَسْحِ على الجبيرة

‏[‏الجبائر‏]‏

وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْقُضُ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ فَسُقُوطُ الْجَبَائِرِ عن بُرْءٍ يَنْقُضُ الْمَسْحَ جملة ‏[‏وجملة‏]‏ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْجَبَائِرَ إذَا سَقَطَتْ فَإِمَّا أَنْ تَسْقُطَ لَا عن بُرْءٍ أو عن بُرْءٍ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ في الصَّلَاةِ أو خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنْ سَقَطَتْ لَا عن بُرْءٍ في الصَّلَاةِ مَضَى عليها وَلَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنْ كان خَارِجَ الصَّلَاةِ يُعِيدُ الْجَبَائِرَ إلَى مَوْضِعِهَا وَلَا يَجِبُ عليه إعَادَةُ الْمَسْحِ وَكَذَلِكَ إذَا شَدَّهَا بِجَبَائِرَ أُخْرَى غير الْأُولَى بِخِلَافِ الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ أنه إذَا سَقَطَ الْخُفُّ في حَالِ الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ وَإِنْ سَقَطَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَجِبُ الْغَسْلُ وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ سُقُوطَ الْغَسْلِ لِمَكَانِ الْحَرَجِ كما في النَّزْعِ فإذا سَقَطَ فَقَدْ زَالَ الْحَرَجُ وَهَهُنَا السُّقُوطُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ وإنه قَائِمٌ فَكَانَ الْغَسْلُ سَاقِطًا وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمَسْحُ وَالْمَسْحُ قَائِمٌ وَإِنَّمَا زَالَ الْمَمْسُوحُ كما إذَا مَسَحَ على رَأْسِهِ ثُمَّ حَلَقَ الشَّعْرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إعَادَةُ الْمَسْحِ وَإِنْ زَالَ الْمَمْسُوحُ كَذَلِكَ هَهُنَا وَإِنْ سَقَطَتْ عن بُرْءٍ فَإِنْ كان خَارِجَ الصَّلَاةِ وهو مُحْدِثٌ فإذا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ إنْ كانت الْجِرَاحَةُ على أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَإِنْ لم كن ‏[‏يكن‏]‏ مُحْدِثًا غَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ لَا غَيْرُ لِأَنَّهُ قَدَرَ على الْأَصْلِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ فيه فَوَجَبَ غَسْلُهُ لَا غَيْرُ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَسْلِ وهو الطَّهَارَةُ في سَائِرِ الْأَعْضَاءِ قَائِمٌ لِانْعِدَامِ ما يَرْفَعُهَا وهو الْحَدَثُ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهَا وَإِنْ كان في حَالِ الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ لِقُدْرَتِهِ على الْأَصْلِ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ وَلَوْ مَسَحَ على الْجَبَائِرِ وَصَلَّى أَيَّامًا ثُمَّ بَرَأَتْ جِرَاحَتُهُ لَا يَجِبُ عليه إعَادَةُ ما صلى بِالْمَسْحِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان الْجَبْرُ على الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ يُعِيدُ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كان على الْكَسْرِ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ وَجْهُ قَوْلِهِ إن هذا عُذْرٌ نَادِرٌ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ زَوَالِهِ كَالْمَحْبُوسِ في السِّجْنِ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ وَوَجَدَ تُرَابًا نَظِيفًا أَنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ من السِّجْنِ كَذَلِكَ هَهُنَا وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ ولم يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ مع حَاجَتِهِ إلَى الْبَيَانِ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفَارِقُ فيه الْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ الْمَسْحَ على الْخُفَّيْنِ فَمِنْهَا أَنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِالْأَيَّامِ بَلْ هو موقت بِالْبُرْءِ وَالْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ موقت بِالْأَيَّامِ لِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا لِأَنَّ التَّوْقِيتَ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَقَّتَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا ولم يوقت هَهُنَا بَلْ أَطْلَقَ بِقَوْلِهِ امْسَحْ عليها وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِوَضْعِ الْجَبَائِرِ حتى لو وَضَعَهَا وهو مُحْدِثٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ جَازَ له أَنْ يَمْسَحَ عليها وَتُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِلُبْسِ الْخُفَّيْنِ حتى لو لَبِسَهُمَا وهو مُحْدِثٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ لَا يَجُوزُ له الْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا فإذا مَسَحَ عليها فَكَأَنَّهُ غَسَلَ ما تَحْتَهَا لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْغَسْلِ وَالْخُفُّ جُعِلَ مَانِعًا من نُزُولِ الْحَدَثِ بِالْقَدَمَيْنِ لَا رَافِعًا له وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا أن ‏[‏وأن‏]‏ يَكُونَ لَابِسُ الْخُفِّ على طَهَارَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ لَا عن بُرْءٍ لَا يُنْتَقَضُ الْمَسْحُ وَسُقُوطُ الْخُفَّيْنِ أو سُقُوطُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الْمَسْحِ لِمَا بَيَّنَّا‏.‏

مبحث شرائط أركان الوضوء

وَأَمَّا شَرَائِطُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ حتى لَا يَجُوزَ التوضأ بِمَا سِوَى الْمَاءِ من الْمَائِعَاتِ كَالْخَلِّ وَالْعَصِيرِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِ ذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا برؤوسكم ‏[‏برءوسكم‏]‏ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ‏}‏ وَالْمُرَادُ منه الْغَسْلُ بِالْمَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قال في آخِرِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ نَقَلَ الْحُكْمَ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَدَلَّ على أَنَّ الْمَنْقُولَ منه هو الْغَسْلُ بِالْمَاءِ وَكَذَا الْغَسْلُ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْغَسْلِ الْمُعْتَادِ وهو الْغَسْلُ بِالْمَاءِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَلَا يَجُوزُ التوضأ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ هو الذي تَتَسَارَعُ أَفْهَامُ الناس إلَيْهِ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ كَمَاءِ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَمَاءِ السَّمَاءِ وَمَاءِ الْغُدْرَانِ وَالْحِيَاضِ وَالْبِحَارِ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءٌ كان في مَعْدِنِهِ أو في الْأَوَانِي لِأَنَّ نَقْلَهُ من مَكَان إلَى مَكَان لَا يَسْلُبُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ عنه وَسَوَاءٌ كان عَذْبًا أو مِلْحًا لِأَنَّ الْمَاءَ الْمِلْحَ يُسَمَّى مَاءً على الْإِطْلَاقِ وقال النبي صلى الله عليه وسلم خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا ما غَيَّرَ لَوْنَهُ أو طَعْمَهُ أو رِيحَهُ وَالطَّهُورُ هو الطَّاهِرُ في نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ وقال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا‏}‏ وقال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ من السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ‏}‏ ‏,‏َرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الْبَحْرِ فقال هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحلج ‏[‏الحل‏]‏ مَيْتَتُهُ وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عن الْمِيَاهِ التي تَكُونُ في الْفَلَوَاتِ وما يَنُوبُهَا من السباع ‏[‏الدواب‏]‏ والدواب ‏[‏والسباع‏]‏ فقال لها ما أَخَذَتْ في بُطُونِهَا وما أَبْقَتْ فَهُوَ لنا شَرَابٌ وَطَهُورٌ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ من آبَارِ الْمَدِينَةِ‏.‏

مبحث الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ

وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ ما لَا تَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ وهو الْمَاءُ الذي يُسْتَخْرَجُ من الْأَشْيَاءِ بِالْعِلَاجِ كَمَاءِ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِ ذلك وَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِشَيْءٍ من ذلك وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ إذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ من الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ كَاللَّبَنِ وَالْخَلِّ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَنَحْوِ ذلك على وَجْهٍ زَالَ عنه اسْمُ الْمَاءِ بِأَنْ صَارَ مَغْلُوبًا بِهِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان الذي خَالَطَهُ مِمَّا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَ الْمَاءِ كَاللَّبَنِ وَمَاءِ الْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِ ذلك تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ في اللَّوْنِ وَإِنْ كان لَا يُخَالِفُ الْمَاءَ في اللَّوْنِ وَيُخَالِفُهُ في الطَّعْمِ كَعَصِيرِ الْعِنَبِ الْأَبْيَضِ وَخَلِّهِ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ في الطَّعْمِ وَإِنْ كان لَا يُخَالِفُهُ فِيهِمَا تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ في الْأَجْزَاءِ فَإِنْ اسْتَوَيَا في الْأَجْزَاءِ لم يُذْكَرْ هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَالُوا حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْمَغْلُوبِ احْتِيَاطًا هذا إذَا لم يَكُنْ الذي خَالَطَهُ مِمَّا يُقْصَدُ منه زِيَادَةُ نَظَافَةٍ فَإِنْ كان مِمَّا يُقْصَدُ منه ذلك وَيُطْبَخُ بِهِ أو يُخَالِطُ بِهِ كَمَاءِ الصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ يَجُوزُ التوضأ بِهِ وَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنُ الْمَاءِ أو طَعْمُهُ أو رِيحُهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ وَازْدَادَ مَعْنَاهُ وهو التَّطْهِيرُ‏.‏

وَكَذَلِكَ جَرَتْ السُّنَّةُ في غُسْلِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ الْمَغْلِيِّ بِالسِّدْرِ وَالْحُرُضِ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ إلَّا إذَا صَارَ غَلِيظًا كَالسَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَزُولُ عنه اسْمُ الْمَاءِ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ بِالطِّينِ أو بِالتُّرَابِ أو بِالْجِصِّ أو بِالنُّورَةِ أو بِوُقُوعِ الْأَوْرَاقِ أو الثِّمَارِ فيه أو بِطُولِ الْمُكْثِ يَجُوزُ التوضأ بِهِ لِأَنَّهُ لم يَزُلْ عنه اسْمُ الْمَاءِ وَبَقِيَ مَعْنَاهُ أَيْضًا مع ما فيه من الضَّرُورَةِ الظَّاهِرَةِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِ الْمَاءِ عن ذلك وَقِيَاسُ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِتَغَيُّرِ طَعْمِ الْمَاءِ وَصَيْرُورَتِهِ مَغْلُوبًا بِطَعْمِ التَّمْرِ فَكَانَ في مَعْنَى الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ أبو يُوسُفَ وقال لَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ تَرَكَ الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وهو حَدِيثُ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه فَجَوَّزَ التوضأ بِهِ وَذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ وَوَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ تَوَضَّأَ بِهِ ولم يَتَيَمَّمْ وَذُكِرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَإِنْ تَيَمَّمَ معه أَحَبُّ إلَيَّ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَرَوَى نُوحٌ في الْجَامِعِ الْمَرْوَزِيِّ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عن ذلك وقال لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وهو الذي اسْتَقَرَّ عليه قَوْلُهُ كَذَا قال نُوحٌ وَبِهِ أَخَذَ أبو يُوسُفَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ نَقَلَ الْحُكْمَ من الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إلَى التُّرَابِ فَمَنْ نَقَلَهُ إلَى النبي صلى الله عليه وسلمذِ ثُمَّ من النبي صلى الله عليه وسلمذِ إلَى التُّرَابِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَهَؤُلَاءِ طَعَنُوا في حديث عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُمْ قالوا رَوَاهُ أبو فَزَارَةَ عن أبي زَيْدٍ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وأبو فَزَارَةَ هذا كان نَبَّاذًا بِالْكُوفَةِ وأبو زَيْدٍ مَجْهُولٌ وَمِنْهَا أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ هل كُنْتَ مع النبي صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ فقال لَيْتَنِي كنت وَسُئِلَ تِلْمِيذُهُ عَلْقَمَةُ هل كان َاحِبُكُمْ مع النبي صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ فقال وَدِدْنَا أَنَّهُ كان وَمِنْهَا أَنَّهُ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ على مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَمِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يُخَالِفَ الْكِتَابَ فإذا خَالَفَ لم يَثْبُتْ أو ثَبَتَ لَكِنَّهُ نُسِخَ بِهِ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ كانت بِمَكَّةَ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قام هَهُنَا دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وهو حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه وَالْآخَرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّيَمُّمِ وهو قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ وَالْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا وَهَهُنَا أَمْكَنَ إذْ لَا تَنَافِيَ بين وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كما في سُؤْرِ الْحِمَارِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كنا أَصْحَابَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جُلُوسًا في بَيْتٍ فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال لِيَقُمْ مِنْكُمْ من ليس في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ من كِبْرٍ فَقُمْتُ وفي رواية‏:‏ فلم يَقُمْ مِنَّا أَحَدٌ فَأَشَارَ إلَيَّ بِالْقِيَامِ فَقُمْتُ وَدَخَلْتُ الْبَيْتَ فَتَزَوَّدْتُ بِإِدَاوَةٍ من نَبِيذٍ فَخَرَجْتُ معه فَخَطَّ لي خَطًّا وقال إنْ خَرَجْتَ من هذا لم تَرَنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقُمْتُ قَائِمًا حتى انْفَجَرَ الصُّبْحُ فإذا أنا بِرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقد عَرِقَ جَبِينُهُ كَأَنَّهُ حَارَبَ جِنًّا فقال لي يا ابْنَ مَسْعُودٍ هل مَعَكَ مَاءٌ أَتَوَضَّأُ بِهِ فقلت لَا إلَّا نَبِيذَ تَمْرٍ في إدَاوَةٍ فقال ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ فَأَخَذَ ذلك وَتَوَضَّأ بِهِ وَصَلَّى الْفَجْرَ وَكَذَا جَمَاعَةٌ من الصَّحَابَةِ منهم عَلِيٌّ وابن مَسْعُودٍ وابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُجَوِّزُونَ التوضأ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال نَبِيذُ التَّمْرِ وُضُوءُ من لم يَجِدْ الْمَاءَ وَرَوَى ابن عَبَّاسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال توضؤوا ‏[‏توضئوا‏]‏ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَلَا تتوضؤوا ‏[‏تتوضئوا‏]‏ بِاللَّبَنِ‏.‏

وَرُوِيَ عن أبي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ أَنَّهُ قال كنت في جَمَاعَةٍ من أَصْحَابِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في سَفِينَةٍ في الْبَحْرِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَفَنِيَ مَاؤُهُمْ وَمَعَهُمْ نَبِيذُ التَّمْرِ فَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَكَرِهَ التوضأ بِمَاءِ الْبَحْرِ وَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِمَاءِ الْبَحْرِ وَكَرِهَ التوضأ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَهَذَا حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فإن من كان يَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كان يَعْتَقِدُ جَوَازَ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فلم يَتَوَضَّأْ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ وَاجِدًا لِلْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَمَنْ كان يَتَوَضَّأُ بِالنبي صلى الله عليه وسلمذِ كان لَا يَرَى مَاءَ الْبَحْرَ طَهُورًا أو كان يقول هو مَاءُ سَخْطَةٍ وَنِقْمَةٍ كَأَنَّهُ لم يَبْلُغْهُ قَوْلُهُ في صِفَةِ الْبَحْرِ هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ فَتَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ عَادِمًا لِلْمَاءِ الطَّاهِرِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الحديث وَرَدَ مَوْرِدَ الشُّهْرَةِ وَالِاسْتِفَاضَةِ حَيْثُ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ مُوجِبًا عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا كَخَبَرِ الْمِعْرَاجِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ من اللَّهِ وَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِ ذلك مِمَّا كان الرَّاوِي في الْأَصْلِ وَاحِدًا ثُمَّ اشْتَهَرَ وَتَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ وَمِثْلُهُ مِمَّا يُنْسَخُ بِهِ الْكِتَابُ مع ما أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لهم في الْكِتَابِ لِأَنَّ عَدَمَ نَبِيذِ التَّمْرِ في الْأَسْفَارِ يَسْبِقُ عَدَمَ الْمَاءِ عَادَةً لِأَنَّهُ أَعْسَرُ وُجُودًا وَأَعَزُّ إصَابَةً من الْمَاءِ فَكَانَ تَعْلِيقُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ تَعْلِيقًا بِعَدَمِ النبي صلى الله عليه وسلمذِ دَلَالَةً فَكَأَنَّهُ قال فلم تَجِدُوا مَاءً وَلَا نَبِيذَ تَمْرٍ فَتَيَمَّمُوا إلَّا أَنَّهُ لم يَنُصَّ عليه لِثُبُوتِهِ عَادَةً ويؤيد ‏[‏يؤيد‏]‏ هذا ما ذَكَرْنَا من فَتَاوَى نُجَبَاءِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في زَمَانٍ انْسَدَّ فيه باب الْوَحْيِ مع أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ الناس بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَبَطَلَ دَعْوَى النَّسْخِ‏.‏

وما ذَكَرُوا من الطَّعْنِ في الرَّاوِي أَمَّا أبو فَزَارَةَ فَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ في الصَّحِيحِ فَلَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فيه وَأَمَّا أبو زَيْدٍ فَقَدْ قال صَاعِدٌ وهو من زُهَّادِ التَّابِعِينَ وَأَمَّا أبو زَيْدٍ فَهُوَ مولى عَمْرِو بن حُرَيْثٍ فَكَانَ مَعْرُوفًا في نَفْسِهِ وَبِمَوْلَاهُ فَالْجَهْلُ بِعَدَالَتِهِ لَا يَقْدَحُ في رِوَايَتِهِ على أَنَّهُ قد رُوِيَ هذا الْحَدِيثُ من طُرُقٍ أُخَرَ غَيْرِ هذا الطَّرِيقِ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا طَعْنٌ وَقَوْلُهُمْ أن ابْنَ مَسْعُودٍ لم يَكُنْ مع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّهُ تَرَكَهُ في الْخَطِّ وَكَذَا رُوِيَ كَوْنُهُ مع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في خَبَرٍ آخَرَ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ على الْعَمَلِ بِهِ وهو أَنَّهُ طَلَبَ منه أَحْجَارًا لِلِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وقال إنَّهَا رِجْسٌ أو رِكْسٌ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَقْوَامًا من الزُّطِّ بِالْعِرَاقِ قال ما أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ وفي رواية‏:‏ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالْكُوفَةِ فقال ما رأيت أَحَدًا أَشْبَهَ بِهَؤُلَاءِ من الْجِنِّ الَّذِينَ رَأَيْتُهُمْ مع النبي صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ وما رُوِيَ أَنَّهُ قال لَيْتَنِي كنت معه فإن ‏[‏وأن‏]‏ عَلْقَمَةَ قال وَدِدْنَا أَنْ يَكُونَ معه محمول ‏[‏فمحمول‏]‏ على الْحَالِ التي خَاطَبَ فيها الْجِنَّ أَيْ لَيْتَنِي كنت معه وَقْتَ خِطَابِهِ الْجِنَّ وددنا ‏[‏ووددنا‏]‏ أَنْ يَكُونَ معه وَقْتَ ما خَاطَبَ الْجِنَّ‏.‏

وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في جَوَازِ الِاغْتِسَالِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ على قول ‏[‏أصل‏]‏ أبي حَنِيفَةَ فقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ وَرَدَ في الْوُضُوءِ دُونَ الِاغْتِسَالِ فَيَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا في الْمَعْنَى ثُمَّ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ نَبِيذِ التَّمْرِ الذي فيه الْخِلَافُ وهو أَنْ يُلْقَى شَيْءٌ من التَّمْرِ في الْمَاءِ فَتَخْرُجُ حَلَاوَتُهُ إلَى الْمَاءِ وَهَكَذَا ذَكَرَ ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه في تَفْسِيرِ نَبِيذِ التَّمْرِ الذي تَوَضَّأَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا في الْمَاءِ لِأَنَّ من عَادَةِ الْعَرَبِ أنها تَطْرَحُ التَّمْرَ في الْمَاءِ الْمِلْحِ لِيَحْلُوَ فما دَامَ حُلْوًا رَقِيقًا أو قَارِصًا يُتَوَضَّأُ بِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ كان غليط ‏[‏غليظا‏]‏ كالمرب ‏[‏كالرب‏]‏ لَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا إنْ كان رَقِيقًا لَكِنَّهُ غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْكِرًا وَالْمُسْكِرُ حَرَامٌ فَلَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ وَلِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلمذَ الذي تَوَضَّأَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان رَقِيقًا حُلْوًا فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْغَلِيظُ وَالْمُرُّ هذا إذَا كان نيأ ‏[‏نيئا‏]‏ فَإِنْ كان مَطْبُوخًا أَدْنَى طَبْخَةٍ فما دَامَ حُلْوًا أو قَارِصًا فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ وَإِنْ غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ الِاخْتِلَافَ فيه بين الْكَرْخِيِّ وَأَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ على قَوْلِ الْكَرْخِيِّ يَجُوزُ وَعَلَى قَوْلِ أبي طَاهِرٍ لَا يَجُوزُ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ اسْمَ النبي صلى الله عليه وسلمذِ كما يَقَعُ على النِّيءِ منه يَقَعُ على الْمَطْبُوخِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ إذَا اخْتَلَطَ بِهِ الْمَائِعَاتُ الطَّاهِرَةُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا إذَا كان الْمَاءُ غَالِبًا وَهَهُنَا أَجْزَاءُ الْمَاءِ غَالِبَةٌ على أَجْزَاءِ التَّمْرِ فَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ وَجْهُ قَوْلِ أبي طَاهِرٍ أَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالْحَدِيثِ وَالْحَدِيثُ وَرَدَ في النِّيءِ فإنه رُوِيَ عن عبد اللَّه بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلمذِ فقال تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا في الْمَاءِ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمَائِعَ الطَّاهِرَ إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ لَا يَمْنَعُ التوضأ بِهِ فَنَعَمْ إذَا لم يَغْلِبْ على الْمَاءِ أَصْلًا فَأَمَّا إذَا غَلَبَ عليه بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَلَا وَهَهُنَا غَلَبَ عليه من حَيْثُ الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَإِنْ لم يَغْلِبْ من حَيْثُ الْأَجْزَاءِ فَلَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ إلَى الصَّوَابِ وَذَكَرَ الْقَاضِي الاسبيجابي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَجَعَلَهُ على الِاخْتِلَافِ في شُرْبِهِ فقال على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ كما يَجُوزُ شُرْبُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ كما لَا يَجُوزُ شُرْبُهُ وأبو يُوسُفَ فَرَقَّ بين الْوُضُوءِ وَالشُّرْبِ فقال يَجُوزُ شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرَى التَّوَضُّؤَ بِالنِّيءِ الْحُلْوِ منه فَبِالْمَطْبُوخِ الْمُرِّ أَوْلَى وَأَمَّا نَبِيذُ الزَّبِيبِ وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بها عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ‏.‏

وقال الْأَوْزَاعِيِّ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْأَنْبِذَةِ كُلِّهَا نيأ ‏[‏نيئا‏]‏ كان النبي صلى الله عليه وسلمذُ أو مَطْبُوخًا حُلْوًا كان أو مُرًّا قِيَاسًا على نَبِيذِ التَّمْرِ وَلَنَا أَنَّ الْجَوَازَ في نَبِيذِ التَّمْرِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الْجَوَازَ إلَّا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَهَذَا ليس بِمَاءٍ مُطْلَقٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ مع الْقُدْرَةِ على الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في نَبِيذِ التَّمْرِ خَاصَّةً فَيَبْقَى ما عَدَاهُ على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ طَاهِرًا فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سَمَّى الْوُضُوءَ طَهُورًا وَطَهَارَةً بِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ وَالْمَاءُ النَّجِسُ ما خَالَطَهُ النَّجَاسَةُ وَسَنَذْكُرُ بَيَانَ الْقَدْرِ الذي يُخَالِطُ الْمَاءَ من النَّجَاسَةِ فَيُنَجِّسُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ منها ‏[‏ومنها‏]‏ أَنْ يَكُونَ طَهُورًا لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امرىء حتى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ في ذَاتِهِ الْمُطَهِّرِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ على ما نَذْكُرُ وَيَجُوزُ بِالْمَاءِ الْمَكْرُوهِ لِأَنَّهُ ليس بِنَجِسٍ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ مَشْكُوكُ في طَهُورِيَّتِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ في طَهَارَتِهِ وَسَنُفَسِّرُهُ وَنَسْتَوْفِي الْكَلَامَ فيه إذَا انْتَهَيْنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ الْأَسْآرِ عِنْدَ بَيَانِ أَنْوَاعِ الإنجاس إن شاء الله تعالى‏.‏

وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلَيْسَتْ من الشَّرَائِطِ وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِدُونِ النِّيَّةِ وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عِنْدنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ من الشَّرَائِطِ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِمَا وَكَذَلِكَ إيمَانُ المتوضىء ‏[‏المتوضئ‏]‏ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ وُضُوئِهِ عِنْدَنَا فَيَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ شَرْطٌ فَلَا يَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ وَكَذَلِكَ الْمُوَالَاةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَعِنْدَ مَالِكٍ شَرْطٌ وَسَنَذْكُرُ هذه الْمَسَائِلَ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْوُضُوءِ لِأَنَّهَا من السُّنَنِ عِنْدَنَا لَا من الْفَرَائِضِ فَكَانَ إلْحَاقُهَا بِفصل السُّنَنِ أَوْلَى‏.‏

فصل سُنَن الْوُضُوءِ

وَأَمَّا سُنَنُ الْوُضُوءِ فَكَثِيرَةٌ بَعْضُهَا قبل الْوُضُوءِ وَبَعْضُهَا في ابْتِدَائِهِ وَبَعْضُهَا في أَثْنَائِهِ أَمَّا الذي هو قبل الْوُضُوءِ فَمِنْهَا الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَحْجَارِ أو ما يَقُومُ مَقَامَهَا وَسَمَّى الْكَرْخِيُّ الِاسْتِنْجَاءَ استجمار ‏[‏استجمارا‏]‏ إذْ هو طَلَبُ الْجَمْرَةِ وَهِيَ الْحَجَرُ الصَّغِيرُ وَالطَّحَاوِيُّ سَمَّاهُ اسْتِطَابَةً وَهِيَ طَلَبُ الطِّيبِ وهو الطَّهَارَةُ وَالِاسْتِنْجَاءُ هو طَلَبُ طَهَارَةِ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ من النَّجْوِ وهو ما يَخْرُجُ من الْبَطْنِ أو ما يَعْلُو وَيَرْتَفِعُ من النَّجْوَةِ وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ وَالْكَلَامُ في الِاسْتِنْجَاءِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَةِ الِاسْتِنْجَاءِ وفي بَيَانِ ما يُسْتَنْجَى بِهِ وفي بَيَان ما يُسْتَنْجَى منه أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ حتى لو تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا وَلَكِنْ مع الْكَرَاهَةِ وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَالْكَلَامُ فيه رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ سنذكره وهو أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ في الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَفْوٌ في حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ليس بِعَفْوٍ ثُمَّ نَاقَضَ في الِاسْتِنْجَاءِ فقال إذَا اسْتَنْجَى بِالْأَحْجَارِ ولم يَغْسِلْ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ تقينا ‏[‏تيقنا‏]‏ بِبَقَاءِ شَيْءٍ من النَّجَاسَةِ إذْ الْحَجَرُ لَا يَسْتَأْصِلُ النَّجَاسَةَ وَإِنَّمَا يُقَلِّلُهَا وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ‏.‏

ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ على أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ ليس بِفَرْضٍ ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ من فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ عليه وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَفَى الْحَرَجَ في تَرْكِهِ وَلَوْ كان فَرْضًا لَكَانَ في تَرْكِهِ حَرَجٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ قال من فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ وَمِثْلُ هذا لَا يُقَالُ في الْمَفْرُوضِ وَإِنَّمَا يُقَالُ في الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ وَالْمُسْتَحَبِّ إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا وَصَلَّى يُكْرَهُ لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ جُعِلَ عَفْوًا في حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ دُونَ الْكَرَاهَةِ وإذا اسْتَنْجَى زَالَتْ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ شَرْعًا لِلضَّرُورَةِ إذْ الْإِنْسَانُ قد لَا يَجِدُ سُتْرَةً أو مَكَانًا خَالِيًا لِلْغَسْلِ وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ فَأُقِيمَ الِاسْتِنْجَاءُ مَقَامَ الْغَسْلِ فَتَزُولُ بِهِ الْكَرَاهَةُ كما تَزُولُ بِالْغَسْلِ‏.‏

وقد رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَسْتَنْجِي بِالْأَحْجَارِ وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مع الْكَرَاهَةِ وَأَمَّا بَيَانُ ما يستنجي بِهِ فَالسُّنَّةُ هو الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ من الْأَحْجَارِ وَالْأَمْدَارِ وَالتُّرَابِ وَالْخِرَقِ الْبَوَالِي وَيُكْرَهُ بِالرَّوْثِ وَغَيْرِهِ من الْأَنْجَاسِ لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ عن أَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ وَعَلَّلَ بِكَوْنِهَا نَجَسًا فقال إنَّهَا رِجْسٌ أو رِكْسٌ أَيْ نَجَسٌ وَيُكْرَهُ بِالْعَظْمِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ وقال من اسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أو رِمَّةٍ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ‏.‏

وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تَسْتَنْجُوا بِالْعَظْمِ وَلَا بِالرَّوْثِ فإن الْعَظْمَ زَادُ إخْوَانِكُمْ الْجِنِّ وَالرَّوْثُ عَلَفُ دَوَابِّهِمْ فإن فِعْلَ ذلك يُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَنَا فَيَكُونُ مُقِيمًا سُنَّةً وَمُرْتَكِبًا كَرَاهَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فَيَكُونُ بِجِهَةِ كَذَا وَبِجِهَةِ كَذَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ حتى لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ إذَا لم يَسْتَنْجِ بِالْأَحْجَارِ بَعْدَ ذلك وَجْهُ قَوْلِهِ أن النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَحْجَارِ فَيُرَاعَى عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عليه وَلِأَنَّ الرَّوْثَ نَجَسٌ في نَفْسِهِ وَالنَّجَسُ كَيْفَ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ وَلَنَا أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ وقد حَصَلَتْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ كما تَحْصُلُ بِالْأَحْجَارِ إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ بِالرَّوْثِ لِمَا فيه من اسْتِعْمَالِ النَّجَسِ وَإِفْسَادِ عَلَفِ دَوَابِّ الْجِنِّ‏.‏

وَكُرِهَ بِالْعَظْمِ لِمَا فيه من إفْسَادِ زَادِهِمْ على ما نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ فَكَانَ النَّهْيُ عن الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ لَا في عَيْنِهِ فَلَا يُمْنَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ وَقَوْلُهُ الرَّوْثُ نَجَسٌ في نَفْسِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ يَابِسٌ لَا يَنْفصل منه شَيْءٌ إلَى الْبَدَنِ فَيَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِهِ نَوْعُ طَهَارَةٍ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ وَيُكْرَهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِخِرْقَةِ الدِّيبَاجِ وَمَطْعُومِ الْآدَمِيِّ من الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِمَا فيه من إفْسَادِ الْمَالِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَكَذَا بِعَلَفِ الْبَهَائِمِ وهو الْحَشِيشُ لِأَنَّهُ تَنْجِيسٌ لِلطَّاهِرِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالْمُعْتَبَرُ في إقَامَةِ هذه السُّنَّةِ عِنْدَنَا هو الْإِنْقَاءُ دُونَ الْعَدَدِ فَإِنْ حَصَلَ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ كَفَاهُ وَإِنْ لم يَحْصُلْ بِالثَّلَاثِ زَادَ عليه وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْعَدَدُ مع الْإِنْقَاءِ شَرْطٌ حتى لو حَصَلَ الْإِنْقَاءُ بِمَا دُونِ الثَّلَاثِ كَمَّلَ الثَّلَاثَ وَلَوْ تَرَكَ لم يُجْزِهِ وَاحْتَجَّ ‏(‏الشَّافِعِيُّ‏)‏ بِمَا رَوَيْنَا عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ أَمْرٌ بِالْإِيتَارِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَرَمَى الرَّوْثَةَ ولم يَسْأَلْهُ حَجَرًا ثَالِثًا وَلَوْ كان الْعَدَدُ فيه شَرْطًا لَسَأَلَهُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ منه هو التَّطْهِيرُ وقد حَصَلَ بِالْوَاحِدِ وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ من غَيْرِ ضَرُورَةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَحُجَّةٌ عليه لِأَنَّ أَقَلَّ الْإِيتَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً على أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيتَارِ ليس لِعَيْنِهِ بَلْ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ فإذا حَصَلَتْ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْأَمْرِ وَكَذَا لو اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ وَاحِدٍ له ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ في تَحْصِيلِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ وَيَسْتَنْجِي بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ وَيَسْتَجْمِرُ بِيَسَارِهِ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ ويستنج ‏[‏ويستنجي‏]‏ بِيَسَارِهِ وَلِأَنَّ الْيَسَارَ لِلْأَقْذَارِ وَهَذَا إذَا كانت النَّجَاسَةُ التي على الْمَخْرَجِ قَدْرَ الدِّرْهَمِ أو أَقَلَّ منه فَإِنْ كانت أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه فقال بَعْضُهُمْ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ‏.‏

وقال بَعْضُهُمْ يَزُولُ بِالْأَحْجَارِ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فصل وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لم يَتَعَدَّ النَّجَسُ الْمَخْرَجَ فَإِنْ تَعَدَّاهُ يُنْظَرُ إنْ كان الْمُتَعَدِّي أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان أَقَلَّ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ إن النَّجَاسَةَ إذَا تَجَاوَزَتْ مَخْرَجَهَا وَجَبَ غَسْلُهَا ولم يذكر خِلَافَ أَصْحَابِنَا لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ من النَّجَاسَةِ ليس بِعَفْوٍ وَهَذَا كَثِيرٌ وَلَهُمَا أَنَّ الْقَدْرَ الذي على الْمَخْرَجِ قَلِيلٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَثِيرًا بِضَمِّ الْمُتَعَدِّي إلَيْهِ وَهُمَا نَجَاسَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ في الْحُكْمِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَلَا يُرَى أَنَّ إحْدَاهُمَا تَزُولُ بِالْأَحْجَارِ وَالْأُخْرَى لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمَاءِ وإذا اخْتَلَفَتَا في الْحُكْمِ يُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهَا وَهِيَ في نَفْسِهَا قَلِيلَةٌ فَكَانَتْ عَفْوًا وَأَمَّا بَيَانُ ما يستنجي منه فَالِاسْتِنْجَاءُ مَسْنُونٌ من كل نَجَسٍ يَخْرُجُ من السَّبِيلَيْنِ له عَيْنٌ مَرْئِيَّةٌ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَدْيِ وَالْمَذْيِ وَالدَّمِ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لِلتَّطْهِيرِ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ وإذا كان النَّجِسُ الْخَارِجُ من السَّبِيلَيْنِ عَيْنًا مَرْئِيَّةً تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّطْهِيرِ بِالتَّقْلِيلِ وَلَا اسْتِنْجَاءَ في الرِّيحِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَيْنٍ مَرْئِيَّةٍ‏.‏

مبحث في السِّوَاكِ

وَمِنْهَا السِّوَاكُ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كل صَلَاةٍ وفي رواية‏:‏ «عِنْدَ كل وُضُوءٍ» وَلِأَنَّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ على ما نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ‏.‏

وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال ما زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حتى خَشِيتُ أَنْ يُدْرِدَنِيَ وَرُوِيَ أَنَّهُ قال طَهِّرُوا مَسَالِكَ الْقُرْآنِ بِالسِّوَاكِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَاكَ بِأَيِّ سِوَاكٍ كان رَطْبًا أو يَابِسًا مَبْلُولًا أو غير مَبْلُولٍ صَائِمًا كان أو غير صَائِمٍ قبل الزَّوَالِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّ نُصُوصَ السِّوَاكِ مُطْلَقَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُكْرَهُ السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلصَّائِمِ لِمَا يُذْكَرُ في كِتَابِ الصَّوْمِ وَأَمَّا الذي هو في ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ فَمِنْهَا النِّيَّةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ فَرِيضَةٌ وَالْكَلَامُ في النِّيَّةِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وهو أَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ غَيْرُ لَازِمٍ في الْوُضُوءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَازِمٌ وَلِهَذَا صَحَّ من الْكَافِرِ عِنْدَنَا خِلَافًا له وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ فَكَذَا شَطْرُهُ وَلِهَذَا كان التَّيَمُّمُ عِبَادَةً حتى لَا يَصِحَّ بِدُونِ النِّيَّةِ وَأَنَّهُ خَلَفٌ عن الْوُضُوءِ وَالْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ‏.‏

وَلَنَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا برؤوسكم ‏[‏برءوسكم‏]‏ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ‏}‏ أَمْرٌ بِالْغَسْلِ وَالْمَسْحِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ النِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا‏}‏ نهى الْجُنُبَ عن قُرْبَانِ الصَّلَاةِ إذَا لم يَكُنْ عَابِرَ سَبِيلٍ إلَى غَايَةِ الِاغْتِسَالِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ النِّيَّةِ فَيَقْتَضِي انْتِهَاءَ حُكْمِ النَّهْي عِنْدَ الِاغْتِسَالِ الْمُطْلَقِ وَعِنْدَهُ لَا يَنْتَهِي إلَّا عِنْدَ اغْتِسَالٍ مَقْرُونٍ بِالنِّيَّةِ وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى في آخِرِ آيَةِ الْوُضُوءِ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ وَحُصُولُ الطَّهَارَةِ لَا يَقِفُ على النِّيَّةِ بَلْ على اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلطَّهَارَةِ وَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا ما غَيَّرَ طَعْمَهُ أو رِيحَهُ أو لونه‏.‏

وقال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا‏}‏ وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ في نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ على ما عُرِفَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَمَلُ الْمَاءِ خِلْقَةً وَفِعْلُ ‏(‏العبد ‏[‏اللسان‏]‏‏)‏ فَضْلٌ في الْباب حتى لو سَالَ عليه الْمَطَرُ أَجْزَأَهُ عن الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُمَا النِّيَّةُ إذْ اشْتِرَاطُهَا لِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّازِمَ لِلْوُضُوءِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فيه من الزَّوَائِدِ فَإِنْ اتَّصَلَتْ بِهِ النِّيَّةُ يَقَعُ عِبَادَةً وَإِنْ لم تَتَّصِلْ بِهِ لَا يَقَعُ عِبَادَةً لَكِنَّهُ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِإِجْمَاعِنَا على أَنَّهُ ليس بِشَرْطِ الْإِيمَان لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ بِدُونِهِ وَلَا شَطْرِهِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هو التَّصْدِيقُ والوضؤ ‏[‏والوضوء‏]‏ ليس من التَّصْدِيقِ في شَيْءٍ فَكَانَ الْمُرَادُ منه أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يُذْكَرُ على إرَادَةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ قَبُولَهَا من لَوَازِمِ الْإِيمَانِ‏.‏

قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وما كان اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ‏}‏ أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَكَذَا نَقُولُ في التَّيَمُّمِ إنه ليس بِعِبَادَةٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ إذَا لم تَتَّصِلْ بِهِ النِّيَّةُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِهِ لَا لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَلْ لِانْعِدَامِ حُصُولِ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ جُعِلَتْ طَهَارَةً عِنْدَ مُبَاشَرَةِ فِعْلٍ لَا صِحَّةَ له بِدُونِ الطَّهَارَةِ فإذا عَرِيَ عن النِّيَّةِ لم يَقَعْ طَهَارَةً بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا يَقِفُ على النِّيَّةِ‏.‏

مبحث التَّسْمِيَةِ في الْوُضُوءِ

وَمِنْهَا التَّسْمِيَةُ وقال مَالِكٌ إنَّهَا فَرْضٌ إلَّا إذَا كان نَاسِيًا فَتُقَامُ التَّسْمِيَةُ بِالْقَلْبِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ بِاللِّسَانِ دَفْعًا لِلْحَرِجِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا وُضُوءَ لِمَنْ لم يُسَمِّ وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ مُطْلَقَةٌ عن شَرْطِ التَّسْمِيَةِ فَلَا تُقَيَّدُ إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ لِلتَّقْيِيدِ وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ من التوضىء ‏[‏المتوضئ‏]‏ هو الطَّهَارَةُ وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ لَا يَقْدَحُ فيها لِأَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ طَهُورًا في الْأَصْلِ فَلَا تَقِفُ طَهُورِيَّتُهُ على صُنْعِ الْعَبْدِ وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال من تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عليه كان طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ وَمَنْ تَوَضَّأَ ولم يذكر اسْمَ اللَّهِ كان طَهُورًا لِمَا أَصَابَ الْمَاءَ من بَدَنِهِ وَالْحَدِيثُ من جُمْلَةِ الْآحَادِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ثُمَّ هو مَحْمُولٌ على نَفْيِ الْكَمَالِ وهو مَعْنَى السُّنَّةِ كَقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ وَبِهِ نَقُولُ أنه سُنَّةٌ لِمُوَاظَبَةِ النبي صلى الله عليه وسلم عليها عِنْدَ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ وَذَلِكَ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لم يُبْدَأْ فيه بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في أَنَّ التَّسْمِيَةَ يؤتي بها قبل الِاسْتِنْجَاءِ أو بَعْدَهُ قال بَعْضُهُمْ قَبْلَهُ لِأَنَّهَا سُنَّةُ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ وقال بَعْضُهُمْ بَعْدَهُ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ حَالُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَلَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى في تِلْكَ الْحَالَةِ من باب التَّعْظِيمِ‏.‏

مبحث غَسْلِ الْيَدَيْنِ

وَمِنْهَا غَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ قبل إدْخَالِهِمَا في الْإِنَاءِ لِلْمُسْتَيْقِظِ من مَنَامِهِ وقال قَوْمٌ أنه فَرْضٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ منهم من قال أنه فَرْضٌ من نَوْمِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْهُمْ من قال أنه فَرْضٌ من نَوْمِ اللَّيْلِ خَاصَّةً وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم من مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ في الْإِنَاءِ حتى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَالنَّهْيُ عن الْغَمْسِ يَدُلُّ على كَوْنِ الْغَسْلِ فَرْضًا وَلَنَا أَنَّ الْغَسْلَ لو وَجَبَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجِبَ من الْحَدَثِ أو من النَّجَسِ لا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغَسْلُ من الْحَدَثِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَوْ أَوْجَبْنَا عليه غَسْلَ الْعُضْوِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ من مَنَامِهِ مَرَّةً وَمَرَّةً عِنْدَ الْوُضُوءِ لَأَوْجَبْنَا عليه الْغَسْلَ عِنْدَ الْحَدَثِ مَرَّتَيْنِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ النَّجَسَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ هو مَوْهُومٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ في الحديث حَيْثُ قال فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى تَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ وَاحْتِمَالِهَا فَيُنَاسِبُهُ النَّدْبُ إلَى الْغُسْلِ وَاسْتِحْبابهُ لَا الْإِيجَابُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو الطَّهَارَةُ فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ فَكَانَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا على نَهْيِ التَّنْزِيهِ لَا التَّحْرِيمِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في وَقْتِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ أَنَّهُ قبل الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أو بَعْدَهُ على ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قال بَعْضُهُمْ قَبْلَهُ وقال بَعْضُهُمْ بَعْدَهُ وقال بَعْضُهُمْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ وَمِنْهَا الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ لِمَا رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ منهم عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ وابن عُمَرَ وَحُذَيْفَةُ بن الْيَمَانِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ حتى قال ابن عُمَرَ فَعَلْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ دَوَاءً وَطَهُورًا وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كان يَأْمُرُ الناس بِالِاسْتِنْجَاءِ بالماء بعد الاستنجاء بِالْأَحْجَارِ وَيَقُولُ إنَّ من كان قَبْلَكُمْ كان يَبْعَرُ بَعْرًا وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فاتبعوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ وهو كان من الْآدَابِ في عَصْرِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَغَسَلَ مَقْعَدَهُ بِالْمَاءِ ثَلَاثًا وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فيه رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‏}‏ في أَهْلِ قباء ‏[‏قبا‏]‏ سَأَلَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن شَأْنِهِمْ فَقَالُوا إنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ ثُمَّ صَارَ بَعْدَ عَصْرِهِ من السُّنَنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَالتَّرَاوِيحِ وَالسُّنَّةُ فيه أَنْ يَغْسِلَ بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ ثُمَّ الْعَدَدُ في الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ ليس بِلَازِمٍ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هو الْإِنْقَاءُ فَإِنْ لم يَكْفِهِ الْغَسْلُ ثَلَاثًا يَزِيدُ عليه وَإِنْ كان الرَّجُلُ مُوَسْوَسًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ على السَّبْعِ لِأَنَّ قَطْعَ الْوَسْوَسَةِ وَاجِبٌ وَالسَّبْعُ هو نِهَايَةُ الْعَدَدِ الذي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ في الْغَسْلِ في الْجُمْلَةِ كما في حديث وُلُوغِ الْكَلْبِ‏.‏

مبحث في كَيْفِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْجَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْخِيَ نَفْسَهُ إرْخَاءً تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يبتدىء بِأُصْبُعٍ ثُمَّ بِأُصْبُعَيْنِ ثُمَّ بِثَلَاثٍ أَصَابِعَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِبُطُونِ الْأَصَابِعِ لَا برؤوسها ‏[‏برءوسها‏]‏ كَيْلَا يُشْبِهَ إدْخَالَ الْأُصْبُعِ في الْعَوْرَةِ وَهَذَا في حَقِّ الرَّجُلِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فقال بَعْضُهُمْ تَفْعَلُ مِثْلَ ما يَفْعَلُ الرَّجُلُ وقال بَعْضُهُمْ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَنْجِيَ برؤوس ‏[‏برءوس‏]‏ الْأَصَابِعِ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الْفَرْجِ الْخَارِجِ في باب الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْجَنَابَةِ وَاجِبٌ وفي باب الْوُضُوءِ سُنَّةٌ وَلَا يَحْصُلُ ذلك إلَّا برؤوس ‏[‏برءوس‏]‏ الْأَصَابِعِ وَأَمَّا الذي هو في أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ فَمِنْهَا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ‏.‏

وقال أَصْحَابُ الحديث منهم أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ هما ‏[‏وهما‏]‏ فَرْضَانِ في الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ جميعا وقال الشَّافِعِيُّ سُنَّتَانِ فِيهِمَا جميعا فَأَصْحَابُ الحديث احْتَجُّوا بِمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِمَا في الْوُضُوءِ وَالشَّافِعِيُّ يقول الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ عن الْجَنَابَةِ يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَدَاخِلُ الْأَنْفِ وَالْفَمِ من الْبَوَاطِنِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ‏.‏

وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ في باب الْوُضُوءِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ وَدَاخِلُ الْأَنْفِ وَالْفَمِ ليس من جُمْلَتِهَا أَمَّا ما سِوَى الْوَجْهِ فَظَاهِرٌ وَكَذَا الْوَجْهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ عَادَةً وَدَاخِلُ الْأَنْفِ وَالْفَمُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ بِخِلَافِ باب الْجَنَابَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ تَطْهِيرُ الْبَدَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا‏}‏ أَيْ طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ فَيَجِبُ غَسْلُ ما يُمْكِن غَسْلُهُ من غَيْرِ حَرَجٍ ظَاهِرًا كان أو بَاطِنًا وَمُوَاظَبَةُ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمَا في الْوُضُوءِ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ فإنه كان يُوَاظِبُ على سُنَنِ الْعِبَادَاتِ وَمِنْهَا التَّرْتِيبُ في الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وهو تَقْدِيمُ الْمَضْمَضَةِ على الِاسْتِنْشَاقِ لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُوَاظِبُ على التَّقْدِيمِ وَمِنْهَا إفْرَادُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ على حِدَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ السُّنَّةُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَاءٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ بِكَفِّهِ فَيَتَمَضْمَضُ بِبَعْضِهِ وَيَسْتَنْشِقُ بِبَعْضِهِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ وَلَنَا أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا وُضُوءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاءً جَدِيدًا وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ فَيُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ على حِدَةٍ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وما رَوَاهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذلك بِمَاءٍ على حِدَةٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ أو يُرَدُّ الْمُحْتَمَلُ إلَى الْمُحْكَمِ وهو ما ذَكَرْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلَيْنِ‏.‏

وَمِنْهَا الْمَضْمَضَةُ ‏(‏باليمين‏)‏ وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَمِينِ وقال بَعْضُهُمْ الْمَضْمَضَةُ بِالْيَمِينِ وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَسَارِ لِأَنَّ الْفَمَ مَطْهَرَةٌ وَالْأَنْفَ مَقْذَرَةٌ وَالْيَمِينُ للأطهار وَالْيَسَارُ لِلْأَقْذَارِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن الْحَسَن بن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ اسْتَنْثَرَ بِيَمِينِهِ فقال له مُعَاوِيَةُ جَهِلْتَ السُّنَّةَ فقال الْحَسَنُ رضي اللَّهُ عنه كَيْفَ أَجْهَلُ وَالسُّنَّةُ خَرَجَتْ من بُيُوتِنَا أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ وَمِنْهَا الْمُبَالَغَةُ في الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا في حَالِ الصَّوْمِ فَيُرْفَقُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لِلَقِيطِ بن صَبِرَةَ بَالِغْ في الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فأرفق وَلِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِيهِمَا من باب التَّكْمِيلِ في التَّطْهِيرِ فَكَانَتْ مَسْنُونَةً إلَّا في حَالِ الصَّوْمِ لِمَا فيها من تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ‏.‏

مبحث في التَّرْتِيبِ في الْوُضُوءِ

وَمِنْهَا التَّرْتِيبُ في الْوُضُوءِ لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وَاظَبَ عليه وَمُوَاظَبَتُهُ عليه دَلِيلُ السُّنَّةِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هو فَرْضٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْغَسْلِ وَالْمَسْحِ في آيَةِ الْوُضُوءِ بِحَرْفِ الْوَاوِ وإنها لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَكِنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ فَيُحْمَلُ على التَّرْتِيبِ بِفِعْلِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏(‏حَيْثُ غَسَلَ‏)‏ مُرَتِّبًا فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ وَلَنَا أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَالْجُمَعُ بِصِفَةِ التَّرْتِيبِ جَمْعٌ مُقَيَّدٌ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَفِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ على مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وهو أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذلك لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَكِنْ ‏(‏لا من حَيْثُ أنه جَمْعٌ بَلْ‏)‏ من حَيْثُ أنه مُرَتَّبٌ وَعَلَى هذا الْوَجْهِ يَكُونُ عَمَلًا بِمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أو الظِّهَارِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَذَا لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ الْمُطْلَقَةُ مُرَادَةً من النَّصِّ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُؤْمِنَةِ من حَيْثُ هِيَ رَقَبَةٌ لَا من حَيْثُ هِيَ مُؤْمِنَةٌ كَذَا هَهُنَا وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِلتَّطْهِيرِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقِفُ على التَّرْتِيبِ لِمَا مَرَّ‏.‏

مبحث الْمُوَالَاةِ في الْوُضُوءُ

وَمِنْهَا الْمُوَالَاةُ وَهِيَ أَنْ لَا يَشْتَغِلُ المتوضىء ‏[‏المتوضئ‏]‏ بين أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِعَمَلٍ ليس منه لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هَكَذَا كان يَفْعَلُ وَقِيلَ في تَفْسِيرِ الْمُوَالَاةِ أَنْ لَا يَمْكُثَ في أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ مِقْدَارَ ما يَجِفُّ فيه الْعُضْوُ الْمَغْسُولُ فَإِنْ مَكَثَ تَنْقَطِعُ الْمُوَالَاةُ وَعِنْدَ مَالِكٍ هِيَ فَرْضٌ وَقِيلَ إنَّهُ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامُ في الطَّرَفَيْنِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في التَّرْتِيبِ فَافْهَمْ‏.‏

مبحث التَّثْلِيثِ في الْغَسْلِ

وَمِنْهَا التَّثْلِيثُ في الْغَسْلِ وهو أَنْ يَغْسِلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وقال هذا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وقال هذا وُضُوءُ من يُضَاعِفُ اللَّهُ له الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وقال هذا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ من قَبْلِي فَمَنْ زَادَ على هذا أو نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ وفي رواية‏:‏ «فَمَنْ زَادَ أو نَقَصَ فَهُوَ من الْمُعْتَدِينَ» وَاخْتُلِفَ في تَأْوِيلِهِ قال بَعْضُهُمْ زَادَ على مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ وَنَقَصَ عن مَوَاضِعِهِ‏.‏

وقال بَعْضُهُمْ زَادَ على ثَلَاثِ مَرَّاتٍ ولم يَنْوِ ابْتِدَاءَ الْوُضُوءِ وَنَقَصَ عن الْوَاحِدَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ على الِاعْتِقَادِ دُونَ نَفْسِ الْفِعْلِ مَعْنَاهُ فَمَنْ زَادَ على الثَّلَاثِ أو نَقَصَ عن الثَّلَاثِ بِأَنْ لم يَرَ الثَّلَاثَ سُنَّةً لِأَنَّ من لم يَرَ سُنَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُنَّةً فَقَدْ ابْتَدَعَ فَيَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ حتى لو زَادَ على الثَّلَاثِ أو نَقَصَ وَرَأَى الثَّلَاثَ سُنَّةً لَا يَلْحَقُهُ هذا الْوَعِيدُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ على الثَّلَاثِ من باب الْوُضُوءِ على الْوُضُوءِ إذ نَوَى بِهِ وإنه نُورٌ على نُورٍ على لِسَانِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا جَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوُضُوءَ مَرَّتَيْنِ سَبَبًا لِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ فَكَانَ الْمُرَادُ منه الِاعْتِقَادَ لَا نَفْسَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ‏.‏

مبحث الْبُدَاءَةِ بِالْيَمِينِ

وَمِنْهَا الْبُدَاءَةُ بِالْيَمِينِ في ‏(‏غسل‏)‏ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يُوَاظِبُ على ذلك وَهِيَ سُنَّةٌ في الْوُضُوءِ وفي غَيْرِهِ من الْأَعْمَالِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُحِبُّ التَّيَامُنَ في كل شَيْءٍ حتى التَّنَعُّلَ وَالتَّرَجُّلَ وَمِنْهَا الْبُدَاءَةُ فيه من رؤوس الْأَصَابِعِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يَفْعَلُ ذلك وَمِنْهَا تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ بَعْدَ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى منابتها لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ قبل أَنْ تُخَلِّلَهَا نَارُ جَهَنَّمَ وفي رواية‏:‏ «خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ لَا تُخَلِّلُهَا نَارُ جَهَنَّمَ» وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ من باب إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ فَكَانَ مَسْنُونًا وَلَوْ كان في أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ فَإِنْ كان وَاسِعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحْرِيكِ وَإِنْ كان ضَيِّقًا فَلَا بُدَّ من التَّحْرِيكِ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى ما تَحْتَهُ‏.‏

مبحث الِاسْتِيعَابِ في مَسْحِ الرَّأْسِ

وَمِنْهَا الِاسْتِيعَابُ في مَسْحِ الرَّأْسِ وهو أَنْ يَمْسَحَ كُلَّهُ لِمَا رَوَى عبد اللَّهِ بن زَيْدٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ

وَعِنْدَ مَالِكٍ فَرْضٌ وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه وَمِنْهَا الْبُدَاءَةُ بِالْمَسْحِ من مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ السُّنَّةُ الْبُدَاءَةُ من الْهَامَةِ فَيَضَعُ يَدَيْهِ عليها فَيَمُدُّهُمَا إلَى مُقَدَّمِ الرَّأْسِ ثُمَّ يُعِيدُهُمَا إلَى الْقَفَا وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يبتدىء بِالْمَسْحِ من مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ في الْمَغْسُولَاتِ الْبُدَاءَةُ بِالْغَسْلِ من أَوَّلِ الْعُضْوِ فَكَذَا في الْمَمْسُوحَاتِ وَمِنْهَا أَنْ يَمْسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالتَّثْلِيثُ مَكْرُوهٌ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ السُّنَّةُ هِيَ التَّثْلِيثُ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَاءٍ وَاحِدٍ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ وَعَلِيًّا رضي اللَّهُ عنهما حَكَيَا وُضُوءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَغَسَلَا ثَلَاثًا وَمَسَحَا بِالرَّأْسِ ثَلَاثًا وَلِأَنَّ هذا رُكْنٌ أَصْلِيٌّ في الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ فيه التَّثْلِيثُ قِيَاسًا على الرُّكْنِ الْآخَرَ وهو الْغَسْلُ بِخِلَافِ الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّهُ ليس بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ بَلْ ثَبَتَ رُخْصَةً وَمَبْنَى الرُّخْصَةِ على الْخِفَّةِ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَرَأَيْتُهُ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَرَأَيْتُهُ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا وما رَأَيْتُهُ مَسَحَ على رَأْسِهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَا رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عَلَّمَ الناس وُضُوءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَأَمَّا حِكَايَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ منهما فَالْمَشْهُورُ منهما أَنَّهُمَا مَسَحَا مَرَّةً وَاحِدَةً كَذَا ذَكَرَ أبو دَاوُد في سُنَنِهِ أَنَّ الصَّحِيحَ من حديث عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَا رَوَى عبد خَيْرٍ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ تَوَضَّأَ في رَحْبَةِ الْكُوفَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ قال من سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وُضُوءِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَنْظُرْ إلَى وُضُوئِي هذا وَلَوْ ثَبَتَ ما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ مَحْمُولٌ على أَنَّهُ فَعَلَهُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا في رِوَايَةِ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ التَّثْلِيثَ بِالْمِيَاهِ الْجَدِيدَةِ تَقْرِيبٌ إلَى الْغَسْلِ فَكَانَ مُخِلًّا بِاسْمِ الْمَسْحِ وَاعْتِبَارُهُ بِالْغَسْلِ فَاسِدٌ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْحَ بُنِيَ على التَّخْفِيفِ وَالتَّكْرَارُ من باب التَّغْلِيظِ فَلَا يَلِيقُ بِالْمَسْحِ بِخِلَافِ الْغَسْلِ وَالثَّانِي أَنَّ التَّكْرَارَ في الْغَسْلِ مُفِيدٌ لِحُصُولِ زِيَادَةِ نَظَافَةٍ وَوَضَاءَةٍ لَا تَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذلك بِتَكْرَارِ الْمَسْحِ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ‏.‏